من المؤكد أنك مثلي تمامًا، مازلت تتذكر الملامح الغامضة الأخاذة لـ الفتاة الأفغانية – Afghan Girl، صاحبة الوجه الآسر الجميل، والنظرة الحادة الثاقبة لـ عينيها الغامضتين المحدقتين، بـ ستة ألوان رمادي، أسود، بني، عسلي، أزرق، ويغلب عليهما اللون الأخضر، واللتان تختزنان الأسرار، والتي أطلت علينا في مُنتصف ثمانينات القرن الماضي، عبر غُلاف مجلة National Geographic، وهي مُرتدية قطعة قماش بالية، مائلة في لونِها إلى الأحمر المخملي.
فـ هل تساءلت يومًا عن القصة وراء تلك الفتاة؟ وعما إذا كانت على قيد الحياة، أم انتهت حياتها؟ مثلها في ذلك مثل الكثير والكثير من الشعب الأفغاني، في ظل الاضطرابات الدائمة التي يعيشها… وإذا ما كانت على قيد الحياة، فـ ما هو مصيرها اليوم؟ وأين تعيش الآن؟ وكيف أصبح شكلها بعد مرور 31 عامًا على نشر صورتها الشهير؟
البداية
بدأت فصول القصة قبل ثلاثة عقود، عام 1984م، بـ مخيم ناصر باغ للاجئين شمال غرب باكستان، وتحديدًا بالقرب من الحدود الأفغانية الباكستانية، وقت الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، عندما ألتقى المُصور الصحفي الأمريكي Steve McCurry – ستيف ماكوري – والذي كان يبدأ لتوه مسيرته مع التصوير الصحفي بـ تغطيته مُصورة للحرب السوفيتية في أفغانستان – بـ طفلة أفغانية ذات 12 عام، يتيمة الأبوين من اللاجئين البشتون، كان والداها قد قُتلا خلال قصف جوي للطيران الروسي عام 1984م، مما أجبرها على ترك منزلها، والانتقال إلى أحد مخيمات اللاجئين.
وهُناك طلب منها التقاط صورة لها، ظهرت فيها بـ نظرة حادة وثاقبة من عينيها الواسعتين ووجهها العابس، وكأنها توجه اللوم للعالم أجمع عما وصل إليه الوضع بأفغانستان.
ثم لفتت الصورة الانتباه، واكتسبت شهرة عالمية بعد نشرها للمرة الأولى كصورة لغلاف مجلة ناشيونال جيوغرافيك عدد يونيو 1985م، بعدما أضحت تجسيدًا لـ مُعاناة الأطفال والنساء الذين هُجّروا وأهاليهم إلى المخيمات، مما أدّى لإحداث ردود فعل بين متابعى وقُراء المجلة، حيث نُسخت ونُشرت واستُخدمت في كل ما يخطر على بال، على البطاقات البريدية الملصقات، القمصان، أغلفة المجلات، الكتيبات، المُلصقات، والتقاويم لفترة طويلة، وساهمت في تدفق مساعدات إنسانية على مخيمات اللاجئين في أفغانستان.
لتُحقق الصورة فيما بعد أصداء عالمية كُبرى واسعة النطاق بـ أرجاء العالم، فـ أصبحت من أهم وأنجح الإنجازات التي حققتها المجلة العريقة، بعدما فازت بجائزة أحسن صورة وقتها، وأدرجتها الجمعية الجغرافية الوطنية الأمريكية في نهاية تسعينيات القرن الماضي في قائمة الشرف لأفضل 100 صورة استُخدمت على نطاق واسع في منظمة العفو الدولية، لـ تصبح الصورة الأكثر شعبية في تاريخ المجلة منذ إنشائها، ولـ يُشبه ستيف ماكوري بـ الرسام الشهير ليوناردو دافينشي، عندما رسم لوحته العالمية الموناليزا، كـ دلالة على عبقرية الصورة.
غلاف عدد يونيو 1985 من مجلة ناشيونال جيوغرافيك للفتاة الأفغانية شاربات جولا
وظلت الفتاة الأفغانية مجهولة لـ مُدة 17 عام، ولأن اسمها لم يكن معروفًا، اشتهرت بـ لقب الفتاة الأفغانية وموناليزا أفغانستان، تأثر الكثيرون بقصتها آنذاك، وكان الجميع يتساءلون طوال سنوات عما آل إليه مصيرها، حيث كانت حدود أفغانستان مغلقة أمام الإعلام الغربي.
ولكن بعد أن تمت إزاحة حكومة طالبان عام 2001م، فـ أصبح من المُحتم كشف النقاب عن هوية صاحبة الصورة بعد ما حققته من شهرة، وبالتحديد في يناير عام 2002م، بعد الغزو الأمريكي، تمكن ستيف ماكوري وفريق ناشيونال جيوغرافيك، من العثور عليها مرة أخرى، وتحديد مكان تواجدها، بسبب عينيها المميزتين، فقد استخدم فريق القناة عدة طرق، من ضمنها أجهزة تمييز بصمة العين المتطورة، وتقنيات تمييز الوجه الخاصة بمكتب التحقيقات الفيدرالي. وكانت تجهل تمامًا أن صورتها قد انتشرت في أرجاء العالم.
المرأة الأفغانية شاربات جولا تحمل عدد ناشيونال جيوغرافيك الذي يحمل غلافه صورتها وهي طفلة
وعقب التأكد من أنها صاحبة الصورة، سُمحت لهم بتصويرها مجددًا؛ لتظهر مرة أخرى على غلاف المجلة، تحت عنوان وجدناها! بعد سبعة عشر عاماً، قصة لاجئة أفغانية، غير أنها هذه المرة كانت مغطاة بالكامل، وتضع الزي المحلي – البُرقع الأفغاني – وتحمل بين يديها نسخة من المجلة التي نشرت صورتها وهي صغيرة، ليعرف العالم أن الفتاة الأفغانية، تُدعى Sharbat Gula – شاربات جولا، وتعيش بين الجبال بـ منطقة قريبة من تورا بورا مع زوجها وبناتها الثلاثة. وقد وثقَّت القناة رحلة العثور عليها بعد محاولات عدة في فيلم وثائقي.
وللقصة فصول أخرى
وبعد كُل هذه الفترة، عاد الحديث إليها مرة أخرى، مما جعلها تتصدر عناوين الصُحف مُجددًا، فـ بحسب صحيفة الجارديان البريطانية، فقد ألقت الشرطة الباكستانية – حيث تعيش شاربات الآن – القبض عليها يوم الأربعاء 26 من أكتوبر الجاري، بعد تحقيقات استمرت لقُرابة العامين، بـ تهمة تزوير في وثائق رسمية؛ لحيازتها أوراق هوية باكستانية مزيفة، تحت اسم شربات بيبي، على إنها مواطنة باكستانية وليست لاجئة، حيث تحمل الهويتين الباكستانية والأفغانية، لكن البطاقتين قد تم سحبهما منها بعد عملية الاعتقال بـ مدينة بشاور الباكستانية.
مما يعرضها في حال إدانتها، لعقوبة تتراوح بين 7 إلى 14 عام سجن، بالإضافة إلى غرامة تتراوح قيمتها بين 3 إلى 5 آلاف دولار، وتواجه احتمالات الترحيل الى أفغانستان، وذلك بعدما داهمت الشرطة الباكستانية منزلها، وصادرت جميع أوراقها، ووضعتها قيد الاعتقال، ضمن حملة تقوم بها للكشف عن تزوير وثائق الهوية هُناك.
وفي العام الماضي، كان تم اعتقالها بتهم مماثلة، ولكن أفرج عنها في وقت لاحق، ضمن تصاعد الضغوط التي يتعرض لها اللاجئين الأفغان في باكستان للعودة إلى ديارهم، إذ تعتزم الحكومة الباكستانية إعادة كل اللاجئين الذين يقدر عددهم بـ 2.5 مليون لاجئ إلى أفغانستان؛ نظرا لأنهم أصبحوا عبئًا ثقيلُا لا يحُتمل على الاقتصاد، حيث بدأت الحكومة الباكستانية العام الماضي حملة إجراءات صارمة ضد اللاجئين الأفغان الذين يزعم أنهم استخدموا وثائق مزورة للحصول على الجنسية الباكستانية.
وقال ماكوري، في بيان له، أنه ملتزم مساعدتها قانونيًا وماليًا، وأعرب عن اعتراضه على ما تم بحقها، فقد عانت طوال حياتها. مُعتبرًا اعتقالها هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان.
فيما قالت وكالة الأمم المتحدة للاجئين UNHCR في أفغانستان أنها قادرة على المساعدة فقط في حالة إذا ما كانت شاربات جولا مُسجلة كـ لاجئ، لذا لن يكون لها حق التدخل، فـ جولا تندرج تحت مظلة المُهاجرين غير الشرعيين وغير الموثقين، أما منظمة هيومن رايتس ووتش فـ تقول إن باكستان رحّلت 370 ألف أفغاني، منهم نحو 220 ألف لاجئ مسجّل، منذ من يوليو الماضي.
على ما يبدو أن قصة الأيقونة الأفغانية شاربات جولا لها فصول أخرى ستكشف عنها الأيام القادمة، لتظهر الفتاة – التي أصبحت امرأة – مجددًا على الساحة العالمية، لتحكي مُعاناة وطن عانى الأمرَّيْن، جراء ما لحق به من دمار، وما تعرض له من كوارث وحروب وأزمات مُتلاحقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق